خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 30 من جمادى الآخرة 1445هـ الموافق 12 /1 / 2024م
الْإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ( [آل عمران:102].
عِبَادَ اللهِ:
لِلْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ مَنْزِلَةٌ عَظِيمَةٌ فِي الدِّينِ؛ فَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ وَلَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِالتَّسْلِيمِ بِهِ، وَلِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْقَبْرِ وَالْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَمَا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى دُخُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلِ النَّارِ النَّارَ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ( [البقرة:4]، فَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ، مَنْ أَنْكَرَهُ وَأَنْكَرَ مَا يَكُونُ فِيهِ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى؛ ]زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ([التغابن:7]، وَلَمَّا سَأَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَإِنَّ مِمَّا يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْحَوَادِثِ وَالْأَعْمَالِ الَّتِي يَجِبُ التَّسْلِيمُ بِهَا وَبِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهَا: الْإِيمَانَ بِالْمِيزَانِ؛ فَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مُجْمِعُونَ عَلَى الْإِيمَانِ بِهِ وَأَنَّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ فَهُوَ مِيزَانٌ حَقِيقِيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ تُوضَعُ فِي إِحْدَاهُمَا الْحَسَنَاتُ وَفِي الْأُخْرَى السَّيِّئَاتُ، يُنْصَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِوَزْنِ الْعُمَّالِ وَأَعْمَالِهِمْ وَصَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ، وَالْغَايَةُ مِنْ ذَلِكَ: أَلَّا تُظْلَمَ نَفْسٌ شَيْئًا، وَيَظْهَرَ بِذَلِكَ عَدْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتُهُ وَحُكْمُهُ؛ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فِي أُصُولِ السُّنَّةِ : (وَالْإِيمَانُ بِالْمِيزَانِ، كَمَا جَاءَ يُوزَنُ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا يَزِنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَتُوزَنُ أَعْمَالُ الْعِبَادِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّنْ رَدَّ ذَلِكَ وَتَرْكُ مُجَادَلَتِهِ). وَقَدْ دَلَّتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَى الْمِيزَانِ وَوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ([الأنبياء:47]، وَقَالَ تَعَالَى: ]وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ( [الأعراف:8-9]، فَتُوزَنُ فِيهِ جَمِيعُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ وَلَا يُظْلَمُ الْعَبْدُ شَيْئًا.
عِبَادَ اللهِ:
وَقَدْ ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ: أَنَّ هَذَا الْمِيزَانَ عَظِيمُ الْخَلْقِ حَتَّى إِنَّهُ لِيَسَعُ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ جَمِيعًا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ نُوحًا قَالَ لِابْنِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ: آمُرُكَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؛ فَإِنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعَتْ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فِي كِفَّةٍ: رَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَلَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ كُنَّ فِي حَلَقَةٍ مُبْهَمَةٍ؛ فَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ وَزْنِ التَّوْحِيدِ فِي الْمِيزَانِ، وَأَنَّهُ أَثْقَلُ الْأَعْمَالِ، كَمَا فِي حَدِيثٍ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُصَاحُ بِرَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ، فَيُنْشَرُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: هَلْ تُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئاً ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَظَلَمَكَ كَتَبَتِيَ الْحَافِظُونَ؟ ثُمَّ يَقُولُ: أَلَكَ عُذْرٌ؟ أَلَكَ حَسَنَةٌ؟ فَيَهَابُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عَنْدَنَا حَسَنَاتٍ، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه، قَالَ: فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
مَعَاشِرَ الْمُؤْمِنِينَ:
وَمِنْ أَثْقَلِ الْأَعْمَالِ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَاحْرِصْ عَلَى إِحْسَانِ خُلُقِكَ مَعَ رَبِّكَ وَنَفْسِكَ وَإِخْوَانِكَ، وَعَامِلْهُمْ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يُعَامِلُوكَ بِهِ؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أُعْطَيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْر، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، أَثْقَلُ شَيْءٍ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]، وَذِكْرُ اللَّهِ! وَمَا أَدْرَاكَ مَا ذِكْرُ اللَّهِ! ذَاكَ الْعَمَلُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَّهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَاجْعَلْ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- لِسَانَكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ وَتَحْمِيدِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ]. فَالذِّكْرُ مِيزَانُهُ عَظِيمٌ؛ فَعَنْ أَبِي سَلْمَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «بَخٍ بَخٍ وَأَشَارَ بِيَدِهِ بِخَمْسٍ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيْزَانِ!، سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ» [رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَلَا تَغْفُلْ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- عَنْ حَمْدِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ؛ فَحَمْدُ اللَّهِ شَأْنُهُ عَظِيمٌ فِي مِيزَانِ الْكَرِيمِ؛ فَعَنْ أَبِى مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ...» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، وَهَذِهِ صَلَاةُ الْجَنَازَةِ شُهُودُهَا وَحُضُورُ دَفْنِ الْمَيِّتِ فِي الْمِيزَانِ لَهُمَا ثِقْلٌ عَظِيمٌ وَوَزْنٌ كَبِيرٌ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَهِدَ الْجَنَازَةَ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ شَهِدَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ». قِيلَ: وَمَا الْقِيرَاطَانِ؟ قَالَ: «مِثْلُ الْجَبَلَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاهُ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ- عِبَادَ اللهِ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَنَصَرَهُ وَكَفَاهُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
دَلَّتِ النُّصُوصُ عَلَى أَنَّ عَمَلَ الْعَبْدِ يُوزَنُ، كَمَا تُوزَنُ الْأَخْلَاقُ وَالذِّكْرُ، وَأَنَّ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ تُوزَنُ كَمَا فِي حَدِيثِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ، وَأَنَّ الْعَبْدَ نَفْسَهُ يُوزَنُ كَمَا جَاءَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الْأَرَاكِ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟» قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ! مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ!! فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ اقْرَءُوا ] فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[» [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
مَنْ عَلِمَ أَنَّ أَعْمَالَهُ تُحْصَى عَلَيْهِ وَتُوزَنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اجْتَهَدَ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْخَطِيئَاتِ، وَعَمِلَ لِمَلْءِ مِيزَانِهِ بِالْحَسَنَاتِ، وَتَخْفِيفِهِ مِنَ السَّيِّئَاتِ؛ فَمَا يَفْعَلُ الْعَبْدُ مِنَ الْأَعْمَالِ مَكْتُوبٌ وَمَسْطُورٌ، فِي كِتَابٍ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا وَقَدْ أَحْصَاهَا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ؛ قَالَ تَعَالَى: ]وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ( [يونس:61].
اللَّهُمَّ ثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَوَالِدِينَا بِالْحَسَنَاتِ وَاجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْغَاصِبِينَ، وَانْتَقِمْ مِنَ الصَّهَايِنَةِ الْمُجْرِمِينَ، وَرُدَّ الْأَقْصَى الْجَرِيحَ إِلَى حَوْزَةِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ كُنْ لِأَهْلِنَا فِي فِلَسْطِينَ نَاصِرًا وَمُعِينًا، احْقِنْ دِمَاءَهُمْ وَاحْفَظْ أَعْرَاضَهُمْ، وَأَيِّدْهُمْ بِتَأْيِيدٍ مِنْ عِنْدِكَ، وَرُدَّ كَيْدَ أَعْدَائِهِمْ فِي نُحُورِهِمْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْمَعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلَامِ، وَانْفَعْ بِهِمُ الْبِلَادَ وَالْعِبَادَ، اللَّهُمَّ وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة